عصام الخالدي
الرياضة هي نشاط تنافسي وعنصر من عناصر الثقافة وشكل من اشكال الوعي
الاجتماعي ، وهي ليست مجرد نشاط حركي فارغ من محتواه ، بل هي مشاعر واحاسيس وعلاقة
تنشأ بين الناس ، وبالإضافة إلى كونها وسيلة صحية ترفيهية فهي أيضا وسيلة تربوية
متعددة الجوانب تعمل على تربية النشء والشباب أخلاقيا وذهنيا ومعنويا وفكريا
ووطنيا. ولا نبالغ بالقول أن الرياضة هي من أكثر الوسائل الثقافية في شحن الحس
القومي والوطني وإبراز الهوية الوطنية، ولم يكن هناك نشاط استطاع جمع أبناء فلسطين
منذ نشوء الحركة الرياضية الفلسطينية في عشرينيات القرن الماضي مثل النشاط الرياضي.
ومنذ بدء الصراع العربي الصهيوني على الساحة الرياضية في نهاية العشرينيات
كانت احدى الوظائف الأساسية للحركة الرياضية هي إبراز الهوية الفلسطينية . وكانت
الممارسات الصهيونية على الساحة الرياضية الفلسطينية والرد عليها من قبل العرب يشكل احد العوامل في إبراز هذه
الهوية الفلسطينية ، فعلى سبيل المثال كان تأسيس الاتحاد الرياضي الفلسطيني العربي عام
1931 بمثابة رد على هيمنة اليهود على الاتحاد
الفلسطيني لكرة القدم الذي تأسس عام 1928 ، هذا بالإضافة إلى تنظيم المهرجان الرياضي الكشفي بالتعاون مع مؤتمر
الشباب الذي جاء كرد على مهرجاني المكابياد الذين اقيما عام 1932 و 1935. وتعززت الهوية
الفلسطينية بعد إعادة تأسيس الاتحاد الرياضي الفلسطيني في عام 1944 حيث كان الخطر
الصهيوني في الانفراد والهيمنة على الحركة الرياضية في ذلك الوقت الأثر الأكبر في إبراز الهوية الوطنية
الفلسطينية ، فمن المعروف أن الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم الذي كان يهيمن عليه
اليهود كان عضوا في الاتحاد الدولي لكرة القدم وهذا ما اعطاه ميزة التفوق واحتكار
الساحة الرياضية الفلسطينية حتى أنه كان على الفرق العربية في الدول المجاورة
استئذان هذا الاتحاد من اجل التباري مع شقيقاتها الفرق العربية في فلسطين وكان هذا
بالطبع يشكل إهانة وتهميش للثاني . إن القوة التنظيمية التي تميزت بها الحركة
الرياضية العربية في الأربعينيات والتفاني الذي أبداه الكثيرون كان لهما دورا هاما
في دفع الحركة الرياضية إلى الأمام لتشكل تهديدا على هذه الهيمنة الصهيونية
وتزاحمها حتى في عضوية الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) الذي بدوره اقتنع بوجود
حركة رياضية عربية قوية في فلسطين لها الكفاءة ان تُمثل فيه. ويصح القول أنه كان
هناك تفاعل متبادل بين النشاط الرياضي الفلسطيني والهوية الوطنية
الفلسطينية في حقبة الانتداب فكلاهما كان له تأثير إيجابيا على الآخر في دفع الحركة الرياضية والحركة الوطنية .
بعد النكبة كانت الرياضة
احدى الوسائل التي سعى من خلالها شعبنا إلى إثبات وجوده في الوقت الذي كان فيه العالم
ينكر هذا الوجود. وقد شكل مجموع الأندية التي تأسست في المخيمات (في مناطق الشتات) والقرى والمدن الفلسطينية جزء من هذه الهوية ، وتعزز ذلك عندما انشئت اتحادات
لأنواع رياضية مختلفة في قطاع غزة . وعلى الرغم من تردي الأحوال الاجتماعية والاقتصادية
البائسة التي عانى منها أبناء القطاع تحت الإدارة المصرية إلا أن عزاءهم تمثل في
بروز الهوية الوطنية الفلسطينية ودور النظام المصري في تعميق هذه الهوية وبلورتها
عبر كافة وسائل الإعلام ، بحيث أصبح القطاع من أكثر التجمعات الفلسطينية قدرة على
التعبير المنظم عن هويتهم الوطنية بكافة مظاهرها السياسية والعسكرية ، إضافة إلى
ذلك فقد التزمت الإدارة المصرية بإبقاء الهوية الوطنية (والجنسية) صفة ملازمة
اللشعب الفلسطيني في القطاع ، وكان لهذا الموقف دوراً هاماً في الحفاظ على الكيان
الفلسطيني وشكل حافزاً قوياً لكل القوى والحركات الوطنية القومية والأممية في
نضالها ضد الوجود الصهيوني ، ومهد الطريق نحو ولادة م. ت. ف. [1] وقد تمثل الدعم المصري على الصعيد الرياضي بإدارة
عالية التنظيم وبإعداد الكوادر الرياضية وبتمثيل فلسطين في الدورات الرياضية
العربية التي كان أول مشاركة لها في القاهرة عام 1953 عندما شاركت فلسطين بوفد رياضي لأنواع رياضية عديدة.
في عام 1962 تأسس الاتحاد الرياضي الفلسطيني - لجنة كرة القدم بالإضافة إلى
اتحادات عديدة لأنواع رياضية مخلتفة في قطاع غزة ، ومن المعروف أن تقديم طلب
العضوية في الاتحاد الدولي لكرة القدم وفي اللجنة الأولمبية الدولية يشترط ان تكون
فلسطين منضمة إلى عدة اتحادات دولية لأنواع رياضية مختلفة ، لذلك قامت هذه
الاتحادات بطلب الانضمام للاتحادات الدولية حيث تم قبول بعضها والبعض الآخر واجه
الرفض بحجة أنه ليس لقطاع غزة "صفة دولة" ، حتى أن بعض هذه الاتحادات سُحِبت
عضويتها بسبب التدخلات الإسرائيلية لطمس الهوية الفلسطينية التي استطاعت أن تظهر
من خلال هذه الاتحادات ونشاطاتها . لقد حرصت القيادة الوطنية في مصر على احتفاظ
قطاع غزة باسم فلسطين في كافة المحافل العربية والدولية وتم تثبيته رسمياً في
الأمم المتحدة باعتباره "الجزء الباقي من فلسطين" كما التزمت بالإبقاء
على القوانين الفلسطينية الصادرة بمرسوم فلسطين لسنة 1922 كما هي مع اشتراط عدم
مخالفة هذا المرسوم لما جاء في النظام الأساسي الصادر بالقانون رقم 225 الصادر سنة
1955 ، وفي شهر آب 1958 أصدر مجلس الدولة المصري فتواه التي تؤكد على "أن
قطاع غزة ينفصل انفصالا كلياً عن دولة مصر من جميع النواحي التشريعية والتنفيذية
والقضائية ". وفي عام 1962 صدر القانون الدستوري لقطاع غزة وتقرر العمل به
لحين صدور الدستور الدائم لفلسطين وقد ورد في المادة الأولى منه "منطقة قطاع
غزة جزء من أرض فلسطين ، وشعبها جزء لا يتجزأ من الأمة العربية". [2] ورغم
ذلك فإن معظم الاتحادات الرياضية الدولية للأسف كانت تنظر إلى قطاع غزة على أنه
ليس دولة ذات سيادة بل أنه خاضع للإدارة المصرية . من خلال الوثائق التي حصل عليها
الكاتب فإنها تشير بشكل واضح أنه كان هناك احتجاجات حول انضمام فلسطين إلى الاتحادات
الرياضية الدولية من عدد من الدول بأن فلسطين لا تستطيع أن تكون عضوا بها لأنهم
[الفلسطينيون] لم يُكونوا حقيقة دولة مستقلة ذات سيادة. وبالطبع فأول هذه الدول
كانت إسرائيل التي كانت ترفض وجود اسم لفلسطين في المحافل الدولية والتي كانت تعي
جيدا أن الرياضة هي وسيلة هامة من اجل إعلاء اسم وعلم وشعب فلسطين.
في
عام 1968 وبقرار من منظمة التحرير الفلسطينية تم إنشاء المجلس الأعلى لرعاية
الشباب ، وفي عام 1969 اقيمت عدة لجان فرعية في لبنان والأردن وسوريا والعراق ومصر
والكويت والمملكة العربية السعودية وقطر والأمارات. وبعد عام 1970 تم نقل مقر هذا
المجلس من الأردن إلى لبنان وتم تأسيس أندية جديدة في لبنان وسوريا والعراق ، هذا مما أدى إلى تطور النشاطات الرياضية الكشفية . وفي المؤتمر الأول لهذا المجلس تقرر تغيير الاسم
إلى "المجلس الأعلى للشباب والرياضة" . ومن الجدير بالذكر أن اتحادات عديدة
قد شكلت في فترة السبعينات والثمانينات بعضها انضم إلى الاتحاد الدولية ، وبعضها
تم رفضه ، وقد شاركت فلسطين رياضيا على صعيد اقليمي وعربي ودولي ومع ذلك وبرغم
السعي المستمر للانضمام إلى الاتحاد الدولي لكرة القدم إلا أن طلبها هذه ووجه
بالرفض تحت نفس الذرائع وعلى غرار الحجج السابقة .
وعلى
صعيد الضفة وقطاع غزة اللتان كانتا تخضعان لسلطة الاحتلال ومع أن الرياضة
الفلسطينية فيهما لم تصل إلى مستوى اقليمي ودولي بسبب حالة الانغلاق التي فرضها
الاحتلال الإسرائيلي إلا أن الأندية الفلسطينية كانت بمثابة قلاع ضد الاحتلال عملت على تربية
الاجيال فكريا واجتماعيا ووطنيا وكانت هذه الأندية منتشرة في كافة المدن والقرى
ومخيمات اللاجئين . وكان تأسيس رابطتي الأندية في كل من الضفة والقطاع نجاح كبير
على الصعيد الرياضي لتثبتا أن الرياضة الفلسطينية
باستطاعتها تدبير أمورها بعيدة عن الاجهزة الحكومية البيروقراطية ، ومن
المعروف أن هاتين الرابطتين كانتا بمثابة وزارتين للرياضة والشباب. وفي لبنان بلغ
عدد الأندية الفلسطينية حوالي المئة وعشرين نادياً حتى نهاية الثمانينات كانت تمثل
فئات وفصائل وشرائح اجتماعية فلسطينية مختلفة.
لا شك بأن محاولة انضمام فلسطين
إلى اللجنة الأولمبية الدولية والاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) ومشاركة فلسطين
على الساحة الدولية ووضع الرياضة على اسس تنظيمية
واجتماعية وسياسية - فكرية والتفاف فئات واسعة من شعبنا حولها والقيادة الرياضية
الحكيمة ودعم قيادتنا السياسية الفلسطينية لها والتي رأت فيها (قياداتنا) وسيلة
عظيمة تستطيع استخدامها في الوصول إلى عدة أهداف وطنية وسياسية بمجموعها سارعت في
تعميق هذه الهوية الوطنية .
بالطبع فإن نجاح الرياضة الفلسطينية في إبراز هوية شعبنا توج في انضمام
فلسطين إلى اللجنة الأولمبية الدولية عام 1995 والاتحاد الدولي لكرة القدم
(الفيفا) عام 1998 ، إلا أن العضوية (خاصة)
في الاتحاد الدولي (الفيفا) تطلبت الخضوع لمطالب العولمة التي كان لها تأثيرات
سلبية على قضية انتماء الرياضي لناديه وقريته ومدينته . تُعرّف الهوية الوطنية بأنها هوية الفرد
ومشاعر الانتماء إلى الدولة أو الأمة. ومشاعر يشارك بها الفرد في مجموعة من الناس
بصرف النظر عن المواطنة. ومن الخطأ أن
ينظر إلى الهوية الوطنية على أنها فقط انتماء للوطن فهي تشمل أيضا المؤسسة
الاجتماعية التي ينتمي إليها الفرد مثل العائلة (على سبيل المثال النادي الدجاني
الذي تأسس في ثلاثينيات القرن الماضي) والمدرسة والنادي بالإضافة إلى الموقع
الجغرافي مثل القرية والمدينة والمنطقة حتى أنها تشمل الفصيل السياسي ومثال على
ذلك الاندية الرياضية ومراكز الخدمات في المخيمات الفلسطينية في لبنان.
هناك مخطط
لتعرية الثقافة من ثوبها التي لبسته لعقود من الزمن وبما أن الرياضة هي عنصر
هام من عناصر الثقافة وليس منفصل عنها فهذا المخطط يسري على الرياضة أيضا فهي (أي
الرياضة) التي عانت تاريخيا من عقبات كثيرة وضعها أمامها الانتداب البريطاني والمد
الصهيوني ثم فقدانها لهويتها أثناء الحكم الأردني
وصراعها المرير فيما بعد مع الاحتلال الإسرائيلي من أجل الحفاظ على الهوية
الفلسطينية. نراها اليوم تئن تحت وطأة
التغييرات التي تطرأ على الحركة الرياضية مثل الاحتراف الرياضي الذي فرض في ظروف
ليس مهيأة لها حركتنا الرياضية لا اقتصاديا ولا اجتماعيا، كما وأن الاحتراف في هذه
الفترة سيكون مناقضا ومنافيا للتراث النضالي والأصالة التي ترسخت منذ عقود طويلة
والتي من ضمنها انتماء العضو لناديه ولقريته ومدينته ، فأكثر ما يميز الرياضة
الفلسطينية هو انتماء العضو لناديه وتكريس وقته وجهده من أجل رفع مستوى هذا النادي
(فهل سيتقبل النادي مثلا أن يرى لاعبه يلعب مع فريق آخر في مدينة أخرى) . وكما هو
معروف أن الاحتراف هو جزء من العولمة التي لم تفرض على فلسطين وحدها بل على كل
المجتمعات الفقيرة في العالم . إن الحقيقة المزعجة هو أنه بالرغم من
أنه هناك الكثير من الايجابيات الملازمة لحركة العولمة في الرياضة ، إلا أن هناك
البعض الذين يعارضون عولمة الرياضة التي تم تحقيقها على حساب الأفراد والمنظمات
والبلدان التي لها مصادر محدودة ، فبقدر كبير فإن عولمة
الرياضة تحققت على ظهر الفقراء. [3] وكما
يشير ويرثايم (2005 ، ص. 79) مع كل إيجابيات العولمة إلا أنها لا تخلو من العيوب
التي من ضمنها توسيع الفجوة بين المجتمعات الغنية والفقيرة وتوسيع المعايير
البيئية وزيادة الاعتماد على المصادر الخارجية. وبكلمات أخرى فإن العولمة هي مثل
الرياضة : مقابل كل فائز فإنه بالتأكيد هناك أيضا مهزوم .[4]
وإذا أردنا أن نلحق بالغرب فعلينا
أن نسلك طرق تنظيمية وإدارية أخرى سليمة ومنطقية وليس أن نبدأ بالاحتراف الرياضي
أولاً، كما علينا أن نفكر برياضة فلسطينية خاصة بنا ترتكز على تراثنا وتاريخنا
وواقعنا. والجدير بالذكر أن الاحتراف
الرياضي في الغرب تطور خلال عقود من الزمن في ظل ثقافات معينة ووضع اقتصادي مميز،
كما تجدر الإشارة أيضا أن موضوع الاحتراف في كل الوطن العربي ما زال تحت قيد الدراسة، مع العلم أيضا أن وضع
الضفة وقطاع غزة مختلف عما هو عليه في بقية الدول العربية.
إن الهدف الأساسي من الرياضة اليوم هو الحفاظ
على الهوية الفلسطينية وإعداد الشبيبة من أجل الدفاع عن الوطن واستخدامها كوسيلة
من أجل رفع المستوى الصحي للمواطن. والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل يلبي الاحتراف
الرياضي في الوقت الراهن هذه المتطلبات؟ نعم لقد تأسست وزارة للشباب والرياضة
وتأسست الاتحادات الفرعية لكل أنواع الرياضة وتأسس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم
واللجنة الأولمبية الفلسطينية وخرجت الرياضة الفلسطينية إلى صعيد دولي ورفع اسم
فلسطين وعلم فلسطين ، ولا شك أن هذه العملية كلها ساعدت في الحفاظ على هويتنا
الفلسطينية ، فمن
الواضح أن التطور على الصعيد الرياضي خاصة في الحالة الفلسطينية هو في نهاية
المطاف بمثابة نصر على الصعيد السياسي وبمثابة إثبات للهوية الوطنية الفلسطينية ، ولكن للأسف، فإن عمل هذه
المؤسسات يبقى ناقصاً ما دامت الضفة وقطاع غزة تحت الاحتلال وما دامت الحركة
الرياضية تعاني من هيمنة هذه الفئة أو تلك. إن التركيز على الضفة
كمركز لجميع النشاطات سواء السياسية أو الثقافية أو الرياضية أدى إلى ضعف منظمة
التحرير الفلسطينية . فقد شعر اللاجئون الفلسطينيون خاصة هؤلاء الذين نزحوا في عام
1948 أنهم مهمشون على اصعدة كثيرة بما فيها الرياضية فمنظمة التحرير الفلسطيني
التي كانت تمثل مصالحهم الرياضية في السابق اصبحت بديلتها السلطة لا تمثل هذه
المصالح ، فبغض النظر عن
النجاحات التي حققتها الرياضة الفلسطينية على الصعيد المحلي والاقليمي والدولي إلا
أنها تحولت من وسيلة "ثورية" تسعى لتحقيق الأهداف الوطنية إلى مؤسسة
يعتمد بقاؤها على شرعيتها في اعين المجتمع الدولي اكثر من على شعبيتها بين الشعب
الفلسطيني.
المراجع:
[1] غازي الصوراني ، قطاع غزة 1948 - 1993 دراسة تاريخية سياسية اجتماعية
15 نوفمبر 2011 http://www.ahewar.org/debat/files/284104.pdf
[2] غازي الصوراني ، قطاع غزة 1948 - 1993 دراسة تاريخية سياسية اجتماعية
15 نوفمبر 2011 http://www.ahewar.org/debat/files/284104.pdf
[3] Lucie Thibault, Globalization of Sport:
An Inconvenient Truth, Journal of Sport Management, 2009, 23, 1-20.
No comments:
Post a Comment