عصام الخالدي
كانت الرياضة على مر العقود مرآة عكست الواقع
الفلسطيني وصورته بكل تفاصيله خلال المراحل التاريخية المختلفة ، وكان تطورها في
كثير من الأحيان موازياً ومتداخلاً مع التطورات السياسية ومشابها لتطور الحركات الثقافية
الأخرى . وأكثر ما ميز الرياضة الفلسطينية بعد عام 1948 هو تشتتها ، مثلها مثل
الشعب الفلسطيني ، فمن المعروف أنه كان في فلسطين حركة رياضية لا بأس بها ، كانت
تشكل جزء مقوماً للحركة الثقافية في فلسطين ، برز نجاحها بعد إعادة تأسيس الاتحاد
الرياضي الفلسطيني في عام 1944 (تأسس عام 1931 وتوقف عن العمل في نهاية
الثلاثينيات) واستمر تقريبا حتى نهاية عام 1947. وليس غريباً عن القارئ أن عدد الأندية الرياضية
الاجتماعية في فلسطين قبل النكبة بلغ ما يقارب السبعين نادٍ كانت
موزعة في المدن والقرى الفلسطينية ، خمسة وخمسون منها كان عضوا في الاتحاد
الرياضي الفلسطيني . ولو لم يبتل شعبنا بنكبة عام 1948 لاستطاعت
هذه النجاحات والإنجازات الرياضية أن تكون قاعدة متينة لدولة مستقلة بمقدورها
إثبات نفسها أكثر على الساحة المحلية والدولية.
يقول ادوارد سعيد في كتابه "قضية
فلسطين" : وراء كل فلسطيني هناك حقيقة كبيرة: أنه في يوم ما وليس بزمن بعيد
عاش على أرض له تسمى فلسطين التي لم تعد وطنه. [1]
عاش هذا الشعب على ارضه وعاش حياته ومارس نشاطاته التي من ضمنها الرياضية
التي فيما بعد حملها في حقيبة ذكرياته . بالطبع فإن وضع
الرياضة في الشتات كان مشابها لوضع شعبنا الفلسطيني الذي عاني من الغربة وعدم
وجوده على ارضه ، فأكبر مشكلة للرياضة الفلسطينية كانت وما زالت هي عدم وجودها على
أرضها (على مساحة إقليمية واحدة) آمنة ومستقلة فمن المعروف أنه من أجل نجاح أي حركة رياضية
يتوجب أن تتوفر فيه شروط عدة والتي أهمها: الديمقراطية والتنظيم الإداري المعقول والاستقلال
والانطلاق من ارضية (مساحة) واحدة في اتخاذ القرار ، ففي الوقت الذي به معظم
الحركات الرياضية العربية والعالمية تتمتع باستقرار واضح ، نرى به الرياضة الفلسطينية
تعاني من ظاهرة التشتت والتباعد.
لقد كانت النكبة بمثابة ضربة قاضية للرياضة
الفلسطينية ، وبالطبع فقد أدى تشتت الشعب الفلسطيني في الدول المجاورة العديدة
(وفي العالم) إلى تشتت وشلل الرياضة الفلسطينية على مر العقود. ولا احد ينكر أنه برغم
هذه الضربة استطاعت الحركة الرياضة الفلسطينية بفضل الخبرات السابقة والدعم العربي
وإرادة شعبنا في إثبات وجوده والنهوض ولملمة قدراتها وشحذ همتها والاستمرار رغم
العقبات ورغم التشتت. وبالطبع لم يكن هذا سهلا ، ولم يتوقف هذا على الرياضة
الفلسطينية فحسب بل شمل كل نواحي الحياة الثقافية
والاجتماعية وغيرها ، ولربما أن تجربة شعبنا في حقبة الانتداب عززت به
هذه المرونة لاستعادة بعض قواه. كما أن التفاف شعبنا تحت مظلة منظمة التحرير
الفلسطينية التي عملت على تجميع وتوجيه طاقاته ، مما أعطى دفعة للرياضة الفلسطينية
وأضفى عليها صبغة مميزة ، في فترة تميزت بجو من الديمقراطية . وليس غريباً أن فترة
السبعينيات والثمانيات شهدت تطوراً ديمقراطياً فاق ما هو عليه في المجتمعات العربية الأخرى
برغم الشتات والنفي .
اخذت الرياضة في الشتات سمة الأصالة وهي سمة خاصة بها من جهة بسبب عدم
تماثلها في المجتمعات المضيفة، ومن جهة أخرى - كما حدث في الأردن - فقد كان هناك
تماثل واضح فضلاً عن الحفاظ على الهوية الفلسطينية. إن ظروف التشتت في دول كثيرة
ومختلفة جنّبت الفلسطينيين من أن يصبحوا متجانسين اجتماعيا ، حتى أن سكان المخيمات
دخلوا ببطء في المجتمعات من حولهم ، فالأكثر حظاً ذهب إلى الجامعات أو أسس أعمالاً
أو أصبح مهنياً. ولكن حقيقة الفقدان - حتى المعنى الحقيقي للفقدان - خلق
مجتمعاً [فلسطينياً] اصيلاً إلى جانب المجتمعات المضيفة . [2]
بالطبع يستحق موضوع تماثل الحركات الرياضية في الشتات دراسة مستقلة لما له من
أهمية خاصة في مسألة الشتات الفلسطيني بشكل عام.
لقد تجلت ظاهرة التشتت بعدة
مظاهر أولا: انتقال مركز ثقل الحركة الرياضية من فلسطين إلى قطاع غزة ومن ثم إلى
الأردن (1967- 1970)، ثم إلى لبنان (1970 - 1982) وبعدها إلى تونس ثم إلى غزة ثم
إلى رام لله . ثانيا: تشتت مراكز الاتحادات الفلسطينية لأنواع الرياضات المختلفة وتنقلها
، فمثلا كان مركز اتحاد كرة اليد في الكويت حتى عام 1979 ، وتم حله ونقلت إدارته
إلى سوريا بناء على قرار المكتب التنفيذي في عام 1979 ، ومرة جديدة يعود مركز هذا
الاتحاد إلى الكويت بتشكيل هيئة إدارية جديدة. ثالثا: تشتت اللاعبين ، وهذا ما حدث منذ المشاركة
الأولى لفلسطين في الدورة العربية الأولى
في القاهرة عام 1953عندما كان الحركة الرياضية متمركزة في غزة كان يتم تجميع عناصر المنتخب الفلسطيني من قطاع غزة ومصر وسوريا والأردن
ولبنان والعراق وبقية اجزاء الشتات. وفي بطولة كأس العرب في العراق عام 1966 مثل
المنتخب الفلسطيني اللاعبون فائق الحناوي حارس المرمي ، وقد ضم هذا الفريق معظم
اللاعبين من قطاع غزة بالإضافة إلى لاعبين من مصر وسوريا ولبنان. وكان يترأس
البعثة إبراهيم عويضة وعبد الفتاح شريف من قطاع غزة .
وبعد أن انتقلت قيادة منظمة التحرير
الفلسطينية من الأردن إلى لبنان تأسس هناك
الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم وبالتنسيق مع منظمة التحرير الفلسطينية كان يتم انتقاء اللاعبين من لبنان ومن بقية الشتات
باستثناء الضفة وقطاع غزة، ومثال على ذلك أن شاركت فلسطين في بطولة الشطرنج في
اليونان في عام 1984 ومثل فلسطين لاعبون (فلسطينيون) يعيشون في دبي والعراق وسوريا.
وعندما شاركت فلسطين في أولمبياد الشطرنج في دبي في عام 1986 كان الوفد يضم: محمود
سعيد إداري ولاعب ، علاء موسى (لبنان) ، حنا بوجا (فلسطيني مقيم في هندوراس) ،
رياض أبو شمالا ونزيه قاسم (الكويت). وهناك عشرات الأمثلة التي كان يجمع بها
الفريق الوطني الفلسطيني من كافة مناطق الشتات. وفي بعض الحالات مثلا كان مركز
الاتحاد في بلد معين ورئيس الاتحاد في بلد آخر ، فمثلا كان مقر الاتحاد الفلسطيني
لرفع الأثقال في لبنان بينما كان رئيسه يعيش في ليبيا. [3]
وبسبب وضع الشتات تشكلت في سوريا
مثلا اللجنة الرياضية الفلسطينية العليا في عام 1969 برئاسة يونس يونس . وفي عام
1974 تأسس في سوريا أيضا الاتحاد الرياضي الفلسطيني الذي لم يكن بديلا عن اللجنة
العليا لرعاية الشباب التي تأسست من قبل منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1969 (في
عام 1974 تم تغيير الاسم اللجنة العليا للشباب والرياضة في عام) ، بل كان ينسق مع
هذه اللجنة التي كان لها فروع في دول عربية مثل الأردن والعراق والكويت وقطر
والسعودية . وفي رأيي يعود السبب في تشكيل اللجنة الرياضية الفلسطينية والاتحاد
الرياضي الفلسطيني في سوريا إلى ميزة التشتت ووسع رقعتها التي عانى منها شعبنا
وكانت عقبة أمام التنظيم والتخطيط والتنسيق على الساحة الرياضية. أيضا لربما أراد
القياديون الرياضيون الفلسطينيون في سوريا نوع من الاستقلالية في إدارة وتنظيم
نشاطاتهم الرياضية.
إن التسارع في تمويت منظمة التحرير
الفلسطينية - التي تصدرت العمل الوطني والتنظيمي والإداري الفلسطيني - من قبل
السلطة الفلسطينية التي ولدت بصورة قيصرية يؤدي كما يقول ممدوح نوفل إلى فتح بابا
للصراعات الفلسطينية وإلى زيادة حالة الإحباط والبلبلة والارتياح التي يعيشها
فلسطينيو الشتات. [4]
وهذا ما ينطبق بالفعل على الرياضة الفلسطينية التي تتميز بنظامها القيادي المركزي
وفقدانها للأسس الديمقراطية التي تعتبر عاملا مقوما في تجميع الشتات وتخطي
عواقب التشتت ، فبغض النظر عن النجاحات التي حققتها الرياضة الفلسطينية على الصعيد
المحلي والدولي في وقت لا زال قطاع غزة والضفة عمليا تحت الاحتلال، إلا
أن التنسيق وإعطاء حق كل مناطق الشتات حقها بقي أمرا يشوبه الشك . إن التركيز على الضفة كمركز لجميع النشاطات -
سواء السياسية أو الثقافية أو الرياضية - أدى إلى ضعف منظمة التحرير الفلسطينية . [5]
فقد شعر اللاجئون الفلسطينيون خاصة هؤلاء الذين نزحوا في عام 1948 أنهم مهمشون على
اصعدة كثيرة بما فيها الرياضية فمنظمة التحرير الفلسطيني التي كانت تمثل مصالحهم
الرياضية في السابق أصبحت بديلتها السلطة لا تمثل هذه المصالح.
وفي مجمل الحديث وبغض النظر عن النجاحات التي
حققتها الرياضة الفلسطينية على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي إلا أنها تحولت من
وسيلة "ثورية" تسعى لتحقيق الأهداف الوطنية إلى مؤسسة يعتمد بقاؤها على
شرعيتها في أعين المجتمع الدولي اكثر من على شعبيتها بين الشعب الفلسطيني . [6]
ولو قارنا وضع الضفة وقطاع غزة قبل
وبعد اتفاقية أوسلو لرأينا هذا التباعد بالوتيرة السريعة الذي حدث بينهما بفضل
سياسة الاحتلال ، فقبل هذه الاتفاقية كان هناك تنسيق ولقاءات رياضية مكثفة
بين الجانبين ، ولم تقتصر ظاهرة التشتت بين القطاع والضفة فحسب بل تعدتها إلى مدن
وقرى الضفة فيما بينها بسبب الحواجز والجدار العازل حيث كان على سبيل المثال
الوصول إلى بيت لحم من رام لله لحضور مباراة يستغرق ما بين 20 -
25 دقيقة اصبح يستغرق تقريب الساعة وأكثر .
أما التشتت الواضح هنا فكان عزل مدن وقرى الضفة عن بعضها البعض ، وعزل القدس عن
الضفة ليشكل أزمة كبيرة في الرياضة الفلسطينية ، وهذه كلها بالطبع عوامل موضوعية
خارجة عن إرادتنا. أما العامل الأكبر الذاتي بالتأكيد هو ما حدث في قطاع
غزة ، فقد عمقت الخلافات والانقسام السياسي
والتنظيمي ظاهرة تشتت الرياضة الفلسطينية التي كان آخرها الخصام الفتحاوي الحمساوي
الذي حمل في طياته آثارا سيئة على مسيرة الحركة الرياضية الفلسطينية وساعد في
تمزيقها وتشتتها وإضعافها ، وأعطى لإسرائيل هدية على طبق من ذهب كانت تحلم
بها منذ عقود .
وفي الختام ، فقد عانت الرياضة الفلسطينية من
ظروف الشتات ، وتعمق ذلك بعد اتفاقية أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية في الضفة
والقطاع ، إلا أنه من جهة أخرى كان لنضال شعبنا في كل أماكن الشتات ، وإبراز قضيته
على صعيد عربي ودولي وتحليه بالديمقراطية والاستقلالية وتلاحمه تحت مظلة منظمة
التحرير الفلسطينية كان له دوراً إيجابياً على
مسار كل الحركات الثقافية الفلسطينية بما فيها الرياضية.
المراجع:
No comments:
Post a Comment