عصام الخالدي
الرياضة هي عنصر من عناصر الثقافة وشكل من اشكال الوعي الاجتماعي ، وبالإضافة إلى أنها نشاط حركي وتنافسي إلا أنها أيضا وعي يشارك به الفرد مع
المجتمع ضمن مجموع الافكار والنظريات والآراء والمشاعر الاجتماعية والعادات
والتقاليد التي توجد لدى الناس ، والتي تعكس واقعهم الموضوعي .
من المؤكد أن هناك علاقة وطيدة متشابكة ومتداخلة بين نشوء الوعي الرياضي في فلسطين وتطور وانتشار الرياضة فيها ، وقد نشأ هذا الوعي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بفضل عوامل عدة والتي أهمها الحداثة Modernization والتغريب Westernization، فقد تأثر الكثير من المثقفين والسياسيين بالتغريب ، الذي شمل العديد من مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، والذي بدوره ساعد في وضع البذور الأساسية لنشوء الوعي الرياضي في فلسطين لكون الرياضة عنصراً من عناصر الثقافة.
من المعروف أن فلسطين
شهدت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر توسعا في تأسيس المدارس والجمعيات
التبشيرية التي على الرغم من أنها لعبت دورا في حرث التربة أمام الاستعمار إلا
أنها أيضا كان لها دورا هاما في التعليم والثقافة . وقد أولت المدارس
التبشيرية اهتماماً خاصاً بالتربية البدنية والرياضة وأدخلتهما ضمن مناهجها. ويتفق الكثيرون على أن القدر
الكبير من الحداثة دخل فلسطين مع دخول الإنجليز إليها. يؤكد مارتن غلبرت Matin Gilbert في عدة اعمال له عن القدس أن الحداثة وصلت مع الانجليز إلى فلسطين. كما
تؤكد ذلك المؤرخة كارين ارمسترونغ Karen Armstrong بأنه فقط مع انتهاء حكم الاتراك شهدت القدس
نهائيا ضوء مرحلة الحداثة . [1]
استندت هيمنة الرياضات البريطانية على أنظمة النشاط البدني للدول التي كانت
تحت سيطرتها على التفوق القومي وعلى هذه الرياضات الجديدة التي كانت لها علاقة
بالنمط والذوق البريطاني ، وقد بلغ هذا الموقف ذروته في نهاية القرن التاسع عشر. ولا بد للقول أن
فلسطين مثل غيرها من الدول التي كانت خاضعة تحت الاستعمار البريطاني فقد تأثرت
بالرياضة البريطانية بطرق مختلفة . [2]
والرياضة كمفهوم وكنشاط لم تكن جديدة في منطقتنا العربية ، فقد كان هناك في فلسطين ألعاب حركية شعبية ، ومصارعة كانت تسمى بالتبان
العربي. [3] والتاريخ
العربي مليء بالمعلومات عن رياضات مثل الفروسية والرماية
والصيد والمبارزة بالسيف ، وسباق الإبل ، والجري ، والربع - أي رفع الأثقال. كذلك كان الأدب العربي والتاريخ فائضاً بقصص
عنترة ، والدعوات إلى ترويض الجسد ، وأمثال عن الجسد المتناسق والاعتناء به والقوة
الجسدية وما كان لها من دور في تحقيق غايات المجتمع في ذلك الوقت خاصة في الحروب
والغزوات .
دخلتالرياضة إلى فلسطين ضمن الحداثة التي حملها معهم الإنجليز والتي كان
بعضها موجوداً قبل مجيئهم مثل كرة القدم ، فالبريطانيون في فلسطين عملوا على تسارع وتكريس وجودها وأدخلوا بعض انواع الرياضات الجديدة . في تلك الفترة أيضا تم إضفاء الطابع
المؤسساتي على الرياضة الفلسطينية والذي تمثل بالتنظيم الإداري والمباريات
والمنافسات وتأسيس الأندية الاجتماعية – الرياضية التي تبنت النشاط الرياضي كجزء مقوم ونشاط اساسي ضمن نشاطاتها مثل نادي اتحاد
الكرمل والنجمة البيضاء والنادي الساليسي في حيفا والنادي الأُرثوذكسي والنادي
الرياضي الإسلامي في يافا والنادي الرياضي العربي في القدس. من هنا نرى أن الوعي الرياضي ساهم في ظهور الأندية ، وبالعكس
أيضا فإن ظهور الأندية عزز وساهم في نشر وتعزيز الوعي الرياضي.
يشير جوني منصور إلى أن غالبية نشاطات المجتمع العربي في حيفا كانت
مرتبطة بالمدارس أو الجمعيات الخاصة بكل طائفة من الطوائف الدينية في المدينة خلال
السنوات الأولى للانتداب البريطاني . ويبدو بوضوح أن وجود الإنجليز كجيش وجالية
بريطانية مكونة من موظفين وعائلاتهم قد ساهم نوعاً ما في إحداث تغيير نوعي وكمي في
قطاع النشاطات الرياضية في كافة الفروع الرياضية وأحبها كرة القدم. [4]
حصل التحول من خلال مشاهدة المواطنين العرب لألعاب رياضية كان يمارسها الإنجليز ،
أو لنشاطات رياضية كالسباحة والركض والقفز وكرة السلة وكرة المضرب (التنس) وغيرها.
[5]
من الصعب تجاهل الدور الذي لعبته الرياضة الصهيونية ، فهؤلاء الصهاينة
كان لهم أيضاً دوراً في جلب ثقافة رياضية وتأثر العرب بها بشكل مباشر وغير مباشر.
فالمهاجرون اليهود قد هاجروا إلى فلسطين من دول صناعية متطورة حاملين معهم خبرة
وثقافة من ضمنها الرياضية. وقد كانوا ينتمون إلى مجتمع غربي صناعي اشتراكي، ذي
مركزية التنظيم ، وقد قادت هذا المجتمع نخبة من الإداريين والملتزمين الذين كانوا
يملكون الثقة العالية بكفاءتهم نحو طبيعة الأمور. وبالتأكيد كان هدفهم بناء الوطن
القومي اليهودي مما كان يتحتم عليهم استخدام كافة الوسائل من أجل هذا الهدف والتي من
ضمنها الرياضة.
يذكر جوني منصور عن مدينة حيفا "من جهة أخرى كان للمجتمع اليهودي في المدينة تأثيره على العرب بشكل
غير مباشر، إذ نشطت منظمتا مكابي وهابوعيل في تنظيم النشاطات الرياضية على مختلف
أنواعها ، وتميزت هذه المنظمات بدعايات سابقة للنشاطات الرياضية لإثارة الرأي
العام اليهودي وزيادة التنافس بين مؤيدي المنظمتين . ولم تكن هذه النشاطات غائبة
عن عيون المجتمع العربي بل أن هذا المجتمع كان يسمع واحيانا يشاهد كثيرا من
النشاطات والفعاليات الرياضية لدى المجتمع اليهودي في حيفا." [6]
كان لفلسطين علاقات مع الدول العربية الشقيقة في شتى المجالات ، فقد تأثرت فلسطين بما كان يدور في هذه الدول خاصة مصر الشقيقة من خلال زيارات الوفود الرياضية إليها أو زيارات الفلسطينيين لها. ومن المعلوم أن التطور الرياضي في مصر قد سبق ما كان عليه في فلسطين . وقد نقل مواطنون من المجتمع العربي أخباراً رياضية عما شاهدوه أثناء تواجدهم في لبنان أو مصر أو سوريا. وبدون أدنى شك أن مشاركة العرب في مشاهدة الانشطة الرياضية في هذه الأقطار كان عاملا مساعداً
في إثارة وتحريك الروح الرياضية في نفوس العرب. [7] وقد
لعبت الصحافة دوراً لا بأس به في ترويج هذا النشاط خاصة الرياضة المصرية. ولا يفوتنا
أبدا أن الأخبار الرياضية الواردة في الصحف العربية المحلية أو الوافدة من
الاقطار المجاورة نقلت ما يكفي من الصور الرياضية عن الفرق الرياضية فيها. [8]
ظهرت في صحيفة (فلسطين) في عام 1913 بضعة اخبار عن نادي المنتدى الرياضي (السيركل سبورتيف) الذي قاده مجموعة من الشباب المسيحي الذي تأثر بالحداثة التي بدأت
في نهاية القرن التاسع عشر. وهذا يدل أيضا أن فكرة إنشاء الأندية الرياضية لم تبدأ
في عشرينيات القرن الماضي بل بدأت في بداية القرن العشرين . فهؤلاء الشباب كانوا
قد تأثروا بالفكر الغربي وبالنمط الاجتماعي للغرب:
"في
أكتوبر 1911 قام فريق من الشبان في يافا بتأسيس ناد جديد للرياضة وكانوا
قد عرضوا برامجه وقوانينه فيما بعد وطلبوا
ممن يريد المساعدة في دعم هذا النادي أن يعلم بذلك أحد أعضائهم، وقد سمي بالمنتدى
الرياضي أو (السيركل سبورتيفCercle Sportife ). تأسس هذا
النادي من قبل العرب في مدينة يافا وبعض الوجوه الأجنبية العاملة في هذه
المدينة. وكان هدفه إحياء الألعاب الرياضية التي كان أعضاء هذا النادي يرى أن من
شأنها تقوية العضلات وإنماء الجسم وإكسابه عافية ونشاطاً."[9]
أيضا
ظهر هذا المقال في صحيفة (مرآة الشرق) في حزيران 1920 يعكس الوعي الذي تميز به
الشباب في بعد الحرب العالمية الأولى والذي كان ينتشر أكثر بين الشباب المسيحي
الذي كان قد تأثر بالغرب من خلال الجمعيات والمؤسسات الدينية والمدارس في فلسطين
أكثر من غيره من الشباب المسلم :
مما لا جدال فيه أن الامم تحتاج في كل
اطوارها إلى ابناء اقوياء الاجسام ، اصحاء البنية لتستطيع أن تثبت امام حادثات
الليالي ، وما مريض الجسم ، بطيء الحركة ، فنرجو أن لا يكون ابناء امتنا كذلك. لذلك يسرنا أن نرى ابناء قومنا قد فقهوا
صدق تلك القاعدة الحكيمة القديمة وهي "العقل السليم في الجسم السليم"
فاخذوا يؤسسون المحلات للالعاب الرياضية يتمرنون بها على بناء اجسامهم وتقوية
عضلاتهم. فمن هذه الامكنة نادي الالعاب الرياضية في بستان انتيميوس قام به عدد
كبير من شبابنا الوطنيين في القدس. ولما رأى هؤلاء الشبان أن الحاجة ماسة إلى غرفة
(بيفه) يستريح فيها اللاعبون بعد عناء اللعب شمروا عن ساعد الجد وشادوا من مالهم
الخاص غرفة تسد هذا الثلمة وتقوم بالغاية المطلوبة فإذا ذهب اعضاء هذا النادي
يجدون في هذه الغرفة كل ما تسر به العين وينشرح له القلب. البس الله شبابنا ثياب
العافية والسرور والبشر والحبور. [10]
كان الوعي لفوائد الرياضة ينحصر بين نخبة من
المثقفين ، إلا انه كانت هناك فجوة بين هذا الوعي وبين ممارسة التمارين البدنية من
قبل هذه النخبة التي هي نفسها كانت بعيدة عن أدائها وجعلها جزء من حياتها اليومية
، حيث كانت الأندية والمنظمات الشبابية والاجتماعية تستضيف شخصيات تتحدث عن فوائد
الرياضة وعن العقل السليم في الجسم السليم ، ولكنها كانت بعيدة كل البعد عن
ممارسته . ولم يكن بين المثقفين
والمتعلمين إلا الندرة القليلة منهم الذين كان لديهم وعي لأهمية الرياضة وفي نفس
الوقت كانوا يمارسونها، وكان من بين هؤلاء الأديب والمربي المعروف خليل السكاكيني الذي جعل من التمرين البدني جزءاً
من نمط حياته اليومي.[11]
المراجع
والملاحظات
[2] Harif, H;
Galily, Y.
“Sport and Politics in
Palestine, 1918-1948: Football as a Mirror Reflecting the Relations between
Jews and Britons” . Soccer and Society, Vol. 4, no. 1, (Spring
2003), p. 41-56.
[3] التُبان
العربي هي رياضة موروثة عبر الاجيال وصلت إلينا عبر معسكرات الجيش الإسلامي بعد
الفتوحات ، والتبان في الفصحى تعني سراويل صغيرة يكون للملاحين والمصارعين . أما
في اللهجة المحلية فالتُبة هي مساحة الأرض التي يجري عليها اللعب وتكون مستديرة
ومنخفضة عن مستوى ما جاورها ، وتكون ارض رملية. وكان هذا النوع من المصارعة منتشر
في بلاد الشام ومنها فلسطين ، ولهذه اللعبة ثوب خاص مكون من الجلد يلبسه اللاعبون
. يكسو الجسم من السرة لحد اسفل الركبتين. في فترة الحكم العثماني كان يلعبها
المصارع سليم العوضي حيث تغلب على البطل السوري الفهد الحموي الذي كان يصيح في
مدينة يافا "حراج على كل من طلعت الشمس عليه" ، فبرز له سليم العوضي
وكان في اول شبابه ولم تكتمل لحيته بعد وتغلب عليه . حصل الكاتب على هذه المعلومة
من ابن المصارع سليم العوضي ضمن رسالة الكترونية.
[4] جوني منصور ، المدينة الفلسطينية في
فترة الانتداب البريطاني ، تطورات وتحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية "نموذج
حيفا"، الرعاة للدراسات والنشر ، 2009 ، ص. 44.
[5] منصور 44
[6] منصور 45
[7] منصور 45
[8] منصور 45
[9] صحيفة (فلسطين) 11 شباط 1913 ، وفي الثلاثينيات تحول اسم هذا المنتدى إلى
النادي الرياضي في يافا أو (السيركل
سبورتيف) ، ويعتبر هذا النادي أول نادي رياضي ثقافي اجتماعي في فلسطين . انتخب رئيساً
له حضرة الشاب الأديب المحامي فرنسيس أفندي خياط ونائبين للرئيس الأفندية أنطون
جلاد والفونس روك وأميناً للصندوق الفونس أفندي الونصو وسكرتيراً فؤاد أفندي كساب
وأعضاء إلياس أفندي سالم برتقش وزكي أفندي روك
[10] (مرآة الشرق( 23 حزيران 1920
[11] الصحة والرياضة في حياة الأديب والمربي خليل السكاكيني
No comments:
Post a Comment