عصام الخالدي
لا تختلف آثار هذا الدمار الذي ألحقه الإرهاب الصهيوني في قطاع غزة عن
دمار نكبة عام ١٩٤٨ ، فقد شمل الدمار المنشآت والرياضيين والمدربين والقياديين
الرياضيين والصحافيين الرياضيين . وكما هو معروف فإن الاحتلال كان يستهدف هذه المنشآت
والرياضيين في فترة الحصار مدعيا أن الصواريخ كانت تطلق من هذه المنشآت. وتشير
التقارير إلى تدمير خمسين منشأة رياضية واستشهاد أكثر من 410 رياضي . فحسب بعض الإحصاءات فقد تم تدمير أكثر من سبعين بالمائة من المنشآت الرياضية
في قطاع غزة (تسعين بالمئة في المحافظات الجنوبية) ، ناهيك بالطبع عن الشلل الكامل
للنشاطات الرياضية .
لقد دفعت حرب الإبادة
هذه الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم أن يقدم مشروع قرار إلى مؤتمر الفيفا الذي انعقد
في بانكوك في السابع عشر من شهر أيار الماضي. ويدعو المشروع إلى تحميل إسرائيل
المسؤولية عن انتهاكات حقوق الرياضة الفلسطينية وإلى طردها من الفيفا. ولكن رئيس
الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) جياني إنفانتينو قرر رفض طلب الاتحاد الفلسطيني
وهو التصويت الفوري على طرد إسرائيل قائلا إن التقييم القانوني سيُجرى بمجرد
انعقاد مجلس الاتحاد الدولي لكرة القدم في أواخر تموز لمناقشة الاتهامات. وقد تم
تأجيل الاجتماع إلى ما بعد دورة الألعاب الأولمبية في باريس ، ثم إلى نهاية شهر آب
بعد تقديم وثائق إضافية من كلا الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي إلى الاتحاد الدولي
، ثم إلى شهر تشرين الأول عندما أعلنت الفيفا أنها لم تتخذ قراراً بشأن الطلب
الفلسطيني بتعليق عضوية إسرائيل في الاتحاد الدولي لكرة القدم. وذكر بيان صادر عن
الفيفا أن لجنة تأديبية ستبدأ تحقيقا في قضايا التمييز "المزعومة" alleged التي رفعها الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم.
وهكذا تستمر الفيفا بالتأجيل والمماطلة وإيجاد الأعذار من أجل إضافة مزيد من الحصانة على إسرائيل واتحادها الكروي. وكانت كاتارينا بييتلوفيتش رئيسة الفريق القانوني للاتحاد الفلسطيني لكرة القدم قد قالت في دفاعها عن الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم : "يمكن للفيفا أن تختار إما اتباع نظامها الأساسي والتزاماتها بموجب سياسة حقوق الإنسان أو التضحية بأحكامها وأهدافها القانونية لمواصلة حماية إسرائيل من المسؤولية. إن إحالة هذه العملية إلى اللجان وفرق العمل سيكون تمرينًا عقيمًا يهدف مرة أخرى إلى تأخير حل القضية الطويلة الأمد ، وإن أي قرار آخر غير التعليق الفوري من شأنه أن يشكل سابقة خطيرة للغاية."
في عام 1961 اوقفت الفيفا اتحاد كرة القدم في جنوب إفريقيا (FASA) ، وأعيد تأسيسه في عام 1964 ، وتم طرده في عام 1976 ، ثم أعيدت عضويته بعد سقوط نظام الفصل العنصري في عام 1991. ولا يوجد اختلاف بين إسرائيل والنظام العنصري في جنوب إفريقيا ، حيث أصبح واضحاً أمام العالم أن إسرائيل دولة فصل عنصري تمارس أبشع أنواع التمييز والقهر والظلم ضد الفلسطينيين.
الحقيقة هي أن الفيفا تنتهك قوانينها الخاصة بها ، فوفقاً لقانونها الداخلي تنص المادة 4.1 على أن التمييز من أي نوع ضد بلد ، أو فرد ، أو مجموعة من الأشخاص ، بسبب العرق ، أو لون البشرة ، أو الأصل العرقي ، أو الوطني ، أو الاجتماعي ، أو الجنس ، أو الإعاقة ، أو اللغة ، أو الدين ، أو الرأي السياسي ، أو أي رأي آخر ، أو الثروة ، أو الميلاد ، أو أي وضع آخر ، أو التوجه الجنسي ، أو أي سبب آخر محظور تماماً ، ويعاقب عليه بالإيقاف أو الطرد.
ومن الجدير بالذكر أن الاتحاد الفلسطيني منذ فترة طويلة قدم شكوى للفيفا ضد الاتحاد الإسرائيلي لكرة القدم الذي يسمح بمشاركة ستة أندية إسرائيلية في المستوطنات المبنية بشكل غير قانوني في الضفة الغربية ، فوفقاً للقانون الداخلي Statutes للفيفا تنص المادتين 72.1 و72.2 أنه:
1. لا يجوز للاعبين والفرق التابعة للاتحادات الأعضاء أو الأعضاء المؤقتين في الاتحادات لعب مباريات أو إجراء اتصالات رياضية مع لاعبين أو فرق غير تابعة للاتحادات الأعضاء أو الأعضاء المؤقتين في الاتحادات دون موافقة الفيفا.
2. لا يجوز للاتحادات الأعضاء وأنديتها اللعب على أراضي اتحاد عضو آخر دون موافقة الأخير.
في هذا الصدد يزعم الباحث
الإسرائيلي يائير غاليلي Yair Galily أن الفلسطينيين لم يحققوا سوى نجاح محدود في لفت الانتباه إلى مزاعمهم ضد
إسرائيل في عام 2015 من خلال محاولة تعليق عضوية إسرائيل في الفيفا . وربما يكون هذا
صحيحاً لكن ما يثبت فشل ادعاء غاليلي هو أنه يتجاهل مدى تأثير اللوبي الصهيوني على
العديد من المنظمات الدولية بما فيها الفيفا ، بالإضافة إلى المعايير المزدوجة التي
تطبقها الفيفا على قضايا انسانية مثل القضية الفلسطينية ، ناهيك عن ضعف الموقف العربي
داخل الفيفا .
تعتقد الفيفا أن أي محاولة لطرد إسرائيل من عضويتها سيكون بمثابة تحدٍ للولايات المتحدة واللوبي الصهيوني. بالطبع الفيفا غير مستعدة لمواجهة مثل هذه ، فمغامرة مثل هذه ستكون بمثابة كارثة بالنسبة لها وستزعزع الأرض من تحت قدميها لو اتخذت موقفا مبدئيا مثل هذا ، لذا فالأفضل لها أن تتماثل مع واقع النفاق وازدواجية المعايير الذين هما علامة مميزة لسياسة الغرب بشكل عام تجاه قضايا انسانية عديدة وخاصة القضية الفلسطينية.
هناك مخاوف من أن الفيفا تحاول تجنب فضيحة فساد أخرى مثل التي تم تصويرها في سلسلة وثائقية على نتفلكس Netflix تحت عنوان "الفيفا تُكشَف" FIFA Uncovered (التي تهدف إلى كشف فضائح الفساد التي كانت متورطة بها الفيفا) ، فمن أجل البقاء محايدة عندما يتعلق الأمر بالقضايا المتعلقة بالإبادة الجماعية في غزة تصر الفيفا الوقوف إلى جانب الاحتلال ، فهي بذلك تقوم بالتخلي عن قيمها ونزاهتها من أجل الحفاظ على مصالحها. ومن الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة لم تكن الوحيدة وراء هذا الفيلم الوثائقي ، بل أيضا لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية AIPAC (اللوبي الإسرائيلي) وذلك لعدة أسباب (لا نريد الخوض بها ولكن ما يعنينا هو) ، أولا: الدعم المادي واللوجستي الذي قدمته الفيفا للاتحاد الفلسطيني لكرة القدم منذ انضمامه إليها عام 1998 وحتى الآن ، ثانياً: من أجل ترهيب الفيفا وجعلها تفكر مائة مرة قبل مناقشة أي محاولة لطرد إسرائيل أو شكوى ضدها من قبل الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم.
تتهم
الفيفا وإسرائيل الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم بأنه يستخدم الرياضة من أجل أهداف
سياسية ، وهذا بالطبع افتراء واضح لأنه أولا: هناك علاقة وثيقة ومتداخلة بين
الرياضة والسياسة ، فالرياضة في كثير من تفاصيلها هي في نهاية الأمر سياسية بحد ذاتها
(اسم البلد ، العلم ، الهتافات ، المشاعر الوطنية ، التضحيات ، استهداف إسرائيل للملاعب
والرياضيين ، والخ). ثانيا: هذا الادعاء نابع من النفاق فقط ، فكليهما الفيفا
وإسرائيل تستخدمان الرياضة لأهداف سياسية عندما تخدم مصالحهما ، وتنتقدان الاتحاد
الفلسطيني لكرة القدم عندما يستخدم الرياضة بطريقة تؤذي أو تهدد مصالحهما . ومن
الثابت ان إصرار الفيفا على عدم طرد إسرائيل وإعفائها من العقاب وموقفها "المحايد"
من قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو بحد ذاته عمل وسلوك سياسي محض.
كان الصهاينة أول من سخر كل الجهود التي بدأت في
عشرينيات القرن العشرين من أجل استخدام الرياضة لأغراض سياسية ووطنية في المقام
الأول. ومن أجل إخفاء طبيعتها الحقيقية فقد تظاهرت منظمة بيتار شبه العسكرية (التي
يهتف مشجعوها اليوم "الموت للعرب" أثناء مباريات كرة القدم) بأنها منظمة رياضية خلال
عشرينيات القرن العشرين في محاولة لإخفاء دوافعها السياسية. وخلال الثورة العربية
عام 1936، كانت الفرق الرياضية اليهودية على علاقة وثيقة مع البريطانيين من أجل
سحق الثورة. بالإضافة إلى ذلك، حافظت المنظمات الرياضية اليهودية على علاقات قوية
مع المنظمات الإرهابية الصهيونية شبه العسكرية، مثل الهاجاناه، والبالماخ،
والإرجون، وشتيرن، وغيرها.
من المدهش أن الفيفا
اتخذت إجراءات صارمة ضد روسيا في فترة قصيرة من الزمن دون تردد أو مماطلة ، بينما ماطلت
طويلا بحق طلب الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم وابتكرت تفسيرات وأعذار غير مقنعة لهذا
التأخير ، فهي بذلك تقوض المبادئ المنصوص عليها في نظام الفيفا وتعكس نفاقاً
واضحاً في سياستها.
من المعلوم أن وسائل الإعلام الغربية كانت قد دعت إلى مقاطعة أولمبياد سوتشي الشتوية في عام 2014 مدعية أن روسيا كانت تضطهد المثليين في ذلك الوقت ، وبعد ذلك تم استبعاد روسيا وبيلاروسيا من المشاركة في أولمبياد باريس بحجة الحرب في أوكرانيا. وقد تم أيضاً استبعاد عدد محدود فقط من الرياضيين الأفراد من كلا البلدين بشرط أن يثبتوا الحياد تجاه حرب أوكرانيا ، وأن يشتركوا تحت الراية الأولمبية. كما وتم حث المسؤولون الأولمبيون حاليا على منع الرياضيين الروس والبيلاروس من المشاركة في أولمبياد باريس 2024 بعد اتهامهم بانتهاك القواعد الخاصة بالمتنافسين "المحايدين". وفي الوقت نفسه أرسلت إسرائيل وفداً يضم نحو 85 رياضياً إلى دورة الألعاب الأولمبية في باريس. ووفقاً للتقارير، ضم الوفد حامل العلم الإسرائيلي الذي وقّع على القنابل قبل استخدامها في الهجوم الهمجي على قطاع غزة. ووفقاً لتقرير لوكالة أسوشيتد برس، قال رئيس اللجنة الأولمبية الدولية توماس باخ Thomas Bach في آذار الماضي إن الفرق والرياضيون الإسرائيليون سيُسمح لهم بالمشاركة في دورة الألعاب الأولمبية في باريس ، وأن هذا لا شك فيه.
بالطبع هذا هو منطق المعايير
المزدوجة الذي يطبقه الغرب عندما يتعامل مع قضايا مختلفة في جميع أنحاء العالم ، فقد
رأينا في الأشهر القليلة الماضية العلاقة القوية بين النفاق والمعايير المزدوجة وخاصة عندما يتعلق الأمر بالإبادة الجماعية في غزة. فالفيفا تجيز رفع العلم الأوكراني في الملاعب
وتمنع العلم الفلسطيني. وكما نرى معاقبة الروس مسموح بها أما إسرائيل فهي محصنة ضد
العقاب. إن حب الغرب لإسرائيل يشبه حب الأب لطفله المدلل فبقبلة واحدة على الخد
يسمح لإسرائيل أن تفعل ما تريد دون خوف من العقاب أو خطر العواقب.
هناك شعور متزايد بالغضب في مختلف
أنحاء الشرق الأوسط والعالم، ليس فقط بسبب الإبادة الجماعية في فلسطين، ولكن أيضا
بسبب النفاق الصارخ والمعايير المزدوجة من جانب الغرب (ناهيك عن التواطؤ من جانب
معظم الأنظمة العربية). وعلى الرغم من التفاخر أمام العالم بأنه منارة للديمقراطية
وحقوق الإنسان، إلا أن الغرب لم يتمكن من الدفاع عن هذا الادعاء عندما يتعلق الأمر
بالعلاقة مع إسرائيل. وهذا ينطبق أيضا على الاتحاد الدولي لكرة القدم واللجنة
الأولمبية الدولية ومنظمات دولية أخرى رياضية وغير رياضية . وهذا بالطبع
ما أدى إلى انتشار شكوك واسعة النطاق حول مصداقية السياسة الغربية وتشدقها بالديمقراطية وحقوق الانسان.
ونرى الغرب منذ زمن طويل يضع رأسه مثل النعامة في الرمال عندما يتعلق الأمر بإسرائيل ، بينما يتجاهل القانون الدولي ويصبح قانون الغاب هو الحاكم الفعلي. والأسوأ من ذلك هو أن هذا الغرب يستمر في تكرار مقولة "لا أحد فوق القانون" ، نعم لا أحد فوق القانون (إيران وسوريا واليمن وروسيا والعديد من الدول الأخرى) إلا إسرائيل فهي الوحيدة فوق القانون. وفي مقالة للكاتب فيصل كوتي Faisal Kutty "غزة أصبحت مقبرة للمثل الغربية" يقول فيها: "لقد إنهارت المؤسسات المكلفة بدعم العدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان تحت وطأة السياسة والدعاية. وكما لاحظ الكاتب الهندي بانكاج ميشرا Pankaj Mishra فإن استثنائية إسرائيل "تهدم بنية المعايير العالمية التي بني عليها بعد عام 1945."
No comments:
Post a Comment