عصام الخالدي
إن أحد الأهداف التي تسعى إليها إسرائيل من خلال هذه الإبادة الجماعية التي ترتكبها جنباً إلى تدمير
كل ما يتعلق بالشعب الفلسطيني، بما في ذلك ثقافته وتاريخه وهويته والتي من ضمنها الرياضة
التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من الثقافة
والتاريخ الفلسطيني المعاصر. فمن المعلوم جيدا أن الرياضة الفلسطينية كانت دوما
كابوساً وشوكة في حلق إسرائيل لأنها تحمل اسم وعلم وكل رموز الشعب الفلسطيني.
وكانت إسرائيل منذ الخمسينات تحاول عرقلة مسيرة الحركة الرياضية الفلسطينية ، وكانت ترى دائما أن الرياضة
الفلسطينية هي تهديدا لكيانها ووجودها ، لأنها وسيلة فعالة من أجل إبراز الهوية
الوطنية التي هي بدورها عقبة أمام إسرائيل للسير في تحقيق طموحاتها القومية
الاستيطانية التوسعية.
ولا يختلف تدمير التراث الرياضي هذا عن تدمير ما
حدث في عام 1948 ، فهو يشمل تدمير المرافق الرياضية ومباني الأندية وقتل المدربين
والإداريين والصحافيين الرياضيين. ناهيك عن فقدان أطنان من الوثائق التاريخية والإدارية
المدفونة تحت الأنقاض التي تشكل مصدر قلق كبير للمؤرخين والباحثين على حد سواء.
ليس من باب المبالغة أن الرياضة في قطاع غزة
تميزت عن مثيلاتها في مناطق الشتات ، فمن الجدير بالذكر أنه بعد النكبة انتقل مركز
ثقل الحركة الرياضية الفلسطينية من مدينة يافا إلى قطاع غزة التي شهدت تحت الادارة
المصرية تطوراً ملحوظاً في مجالات عدة منها الرياضية . ومن المعروف أنه في
الخمسينات قامت وكالة الغوث لتشغيل اللاجئين الفلسطينيين UNRWA بافتتاح
مراكز خدمات في جباليا، ورفح، وخان يونس، والشاطئ، والنصيرات، والبريج، والمغازي ،
والتي أصبحت أندية لها فرقها الخاصة حيث شاركت في البطولات المحلية والعربية ،
ولعبت دوراً كبيراً في تطوير الرياضة في القطاع. وقد بلغ عدد الأندية
الرياضية في القطاع قبل السابع من تشرين الأول عام 2023 حوالي الثمانية وخمسون
ناديا بفرقها الكروية ذات الدرجة الممتازة والأولى والثانية والثالثة.
ينطبق هذا السؤال (هل من السهل إعادة بناء ما دُمّر من
البنية التحتية الرياضية في قطاع غزة ؟) بشكل عام على كل مناحي الحياة الأخرى التي
دمرت في قطاع غزة مثل التعليم والصناعة والزراعة وغيرها . بالطبع للرياضة ميزاتها
الخاصة بها والمختلفة عن النواحي الأخرى ولكنها ليست بمعزل عنها . وبالتأكيد من الصعب
التكهن بماذا سيكون عليه الوضع الرياضي في القطاع في المستقبل لأن هذا يعتمد على
عدة عوامل والتي أهمها الظروف السياسية والاقتصادية، والدعم العربي والدولي لإعادة البناء (والمثير للفزع هو المخطط الصهيوني الاستيطاني في القطاع الذي تنوي إسرائيل تحقيقه من خلال طرد الفلسطينيين منه). بالطبع
فإن حجم هذا الدمار الذي حل في البنية التحتية هائل جداً سواء على الصعيد المادي
(المنشآت الرياضية) أو على صعيد الشهداء من الرياضيين والكادر الرياضي.
هناك سؤال آخر يلحق بالسؤال الأول
وهو: هل ستعود الرياضة في قطاع غزة كما كانت عليه من قبل بعد سقوط أكثر من اربع
مئة شهيد رياضي وقيادي رياضي وتدمير الجزء الأكبر من البنية التحتية الرياضية؟
بالطبع
الإجابة صعبة على هذين السؤالين . نعم ، سوف لا تعود الرياضة كما ما كانت عليه من
قبل ، وقد أظهرت لنا التجارب السابقة أنه في ظل الحصار الذي فرض على القطاع كان
هناك تراجع نسبي في النمو الرياضي بسبب العراقيل ، ولكن في ظل هذه الضربة الشبه
قاضية فإن التراجع شبه كامل للرياضة الفلسطينية في القطاع . إلا أنه وعلى الجانب الآخر
فإن ما يتميز به شعبنا الفلسطيني هو مرونتة في العودة للوضع ما قبل الضربات
القاسية ، فعلى مدى عقود منذ عام النكبة وحتى الآن نرى الفلسطينيين دائما لا
يترددون في بناء ما تم تدميره مستخدمين كل طاقاتهم وجبروتهم ، فهم كما وصفهم الرئيس الراحل ياسر عرفات بشعب الجبارين. لقد ثبت عبر التاريخ أنه في كل مرة تحاول فيها إسرائيل تدمير الشعب
الفلسطيني وتاريخه وثقافته ، فإنه يعود أقوى وأكثر قدرة على الصمود مما كان عليه من
قبل. أيضا يجب أن نأخذ بالحسبان أن الرياضة في قطاع غزة لها تاريخ وجذور تمتد
إلى عقود عدة من الزمن (منذ عشرينيات القرن الماضي) حيث اصبحت جزء هاماً من تقاليد المجتمع الفلسطيني هناك ، مما يجعلنا نجزم بأن استعادة
شفاء الحركة الرياضية في قطاع غزة سوف تكون صعبة ولكن لن تكون مستحيلة.
إن
تجارب الشعوب الأخرى مثل الألماني والياباني وغيرها (التي استطاعت وبرغم الدمار
إعادة بناء ما تم تدميره وتحقيق تقدم هائل على جميع الاصعدة والتي منها الرياضية
أيضا) تؤكد لنا أن باستطاعة غزة استعادة الشفاء بشكل كامل والعودة إلى وضع ما قبل
هذه الحرب. وسوف يكون للتعاطف الدولي وتعاطف الشعوب العربية مع معاناة شعبنا في
القطاع دور كبير في إعادة بناء الحركة الرياضية الفلسطينية وبنيتها التحتية هناك.
إننا على يقين بأن النية والإصرار التي يملكها شعبنا هي الكفيل الأساسي في عودة الرياضة إلى ما كانت عليه سابقا. يعتبر هذا الدمار الذي تلحقه إسرائيل بالرياضة الفلسطينية ، بمثابة مصدر إلهام للرياضة الفلسطينية لتظل قادرة على المنافسة في المستقبل. والتجارب السابقة تؤكد ذلك ، فبعد قبول فلسطين في عضوية الاتحاد الدولي لكرة القدم كان ترتيب فلسطين في الفيفا عام 1999 (اي بعد قبولها في الفيفا بعام واحد) 191 ، ليرتفع إلى المرتبة 73 في عام 2018 ، ويصل في وقتنا الحاضر إلى المرتبة 94.
أيضا وعلى الرغم من حرب الإبادة هذه فقد نجح منتخب فلسطين لكرة القدم في الوصول إلى الدور الثاني من بطولة كأس آسيا في قطر عام 2023 لأول مرة في تاريخه ، والوصول إلى الدور الثالث (الحاسم) من تصفيات كأس العالم لأول مرة في تاريخه أيضاً. فيما شاركت فلسطين بأكبر بعثة رياضية في تاريخها خلال أولمبياد باريس 2024 التي تأهل إليها اللاعب عمر إسماعيل حنتولي في لعبة التايكواندو كثاني لاعب فلسطيني يضمن الحضور في الأولمبياد عن طريق التصفيات والنقاط تاريخيا.
لا شك
أن شعبنا في غزة الذين يصنع
المعجزات بصموده وبطولاته سوف يستطيع إعادة بناء حياته بمجرد انتهاء الحرب. بالطبع
هناك الكثير من الأضرار لحقت بالبنية التحتية الرياضية، ولكن هذا لن يزعزع من
العزيمة والإرادة والإصرار في بناء حياة كريمة في المستقبل.
No comments:
Post a Comment